Adorno and Ethics, Vol. 33 Book

تختلط فى إنتاج نيتشه مستويات مختلفة من العمق والسطحية، الفلسفة والسفسطة، الأفكار التى تمس حدسه الأصيل والأفكار التى هى مجرد وسائل يدعم به جدله. وتمثل قراءة نيتشه تحدى لإبراز العميق عن السطحى، والتمييز بين ما يمثل "فلسفته الحقيقية" وبين أدوات جدله. ويرجع هذا الاختلاط فى فلسفته إلى الأسلوب الذى اختاره لعرض أفكاره، فقد اختار أسلوبا انفعاليا يهدف إلى التأثير أكثر من عرض الأفكار، ولذلك، فإنه يُكمل نُبذ أفكاره وشذراته لآخر إمكانياتها، وعندما يتطلب إيضاحُ الفكرة على حقيقتها وقفة، فإنه لا يأخذ هذه الوقفة، حتى لا يقطع التأثير اللهاثى لجمله المنطلقة. ونستطيع فى النهاية أن نصنف أفكاره التى يُعبَر عنها فى أصغر وحدة أدبية وهى الجملة الواحدة إلى قسمين: الأفكار التى أراد قولها، والأفكار التى لم يرد قولها!. 1

وهذا الكتاب هو دراسة عميقة ومدققة لإنتاج نيتشه بأكمله، بكل المراحل التى مر بها، باعتبار هذا الفارق بين ما يمس فلسفة نيتشه الحقيقية و"حدسه"، وبين ما يمثل مجرد أدوات استخدمها فى جدله. وفى محاولة للتأكيد على الجانب الحقيقى والواحد الذى قد نطلق عليه تسمية "فلسفة نيتشه" برغم الالتباس الكبير فى أفكاره. مثلا: إشادة نيتشه بالعلم الوضعى فى المرحلة الثانية من فلسفته، والتى يمثلها كتاب "مفرط فى إنسانيته"، هى مجرد وسيلة استخدمها ليجرح الميتافيزيقا فى سياق معين من نقده سرعان ما تجاوزه، ولا تمس هذه الإشادة بأى حال من الأحوال فلسفته الحقيقية. كذلك نقد نيتشه لأخلاق قديمة "معينة" مثل الشفقة، يقوم على سفسطة كبيرة قائمة على سوء نية وقلب جدلى للقيم، بفكرة مسبقة وعامة أن هذه القيم تقوم على نقائضها، فمثلا، الحس السيكلوجى العميق الذى رأى أن الشفقة قد تكون فى بعض الحالات تغطية على شعور بالأنانية والأثرة، لا يملك دليلا على أن الشفقة كلها بشكل عام يمكن إرجاعها إلى هذا، وبالتالى لا تصلح سيكلوجية نيتشه، رغم عمقها، لأن تكون جزءً أصيلا من فلسفته، وإنما استخدمها ليورد أمثلة على فكرته الأصيلة عن نقده للقيم القديمة بشكل عام، نقده لقدم القيم، للتبلد وتحجير الإبداع البشرى فى خلق القيم بالاعتماد على قيم من سياق حيوى مختلف من عصر قديم. والجزء الأصيل فى فلسفة نيتشه الخاص ب"موت الإله" وضرورة خلق قيم جديدة على أساس حيوى، يجب فصلها عن الأمثلة السيئة التى أوردها بهدف زيادة التأثير، والتى مارس فيها سفسطة سيكلوجية ليبرز سوء طوية قيم بعينها. 2

إن ما يسميه الكاتب فلسفة نيتشه الأصلية، والتى تتمحور حول أربع نقاط، هى "موت الإله"، "الإنسان المتفوق"، "إرادة القوة"، "العود الأبدى"، هى أفكار نتجت عن حدس أصيل وحقيقى، ولكن فى أحيان كثيرة، رغبة نيتشه فى التأثير بإيراد أمثلة فى الغالب كانت أمثلة سيئة ومربكة للأفكار أكثر منها موضحة، سببت لبس فى أفكاره، مثلا، الالتباس الكبير فى "إرادة القوة" والذى حيرنى شخصيا منذ سنوات، من أيام قراءاتى الأولى لنيتشه: فإرادة القوة هى الحركية التى تحرك البشر جميعا، والتى يمكن تفسير كل شىء وإرجاعه إليها، الطبيعة والفن والمعرفة، فكيف جعلها نيتشه معيار تقييم يقيم به البشر ويقسمهم لأقوياء وضعفاء، لسادة وعبيد، طالما أن فكرته الأساسية تفسر حتى ضعف البشر وشفقتهم كتجسدات لإرادة القوة؟. كيف ينقد نيتشه الميتافيزيقا الغربية على أساس إنها مجرد تجل لإرادة القوة التى تدفع البشر لتزوير الحقائق، ومحاولة تحديد ما لا يمكن تحديده، وفى نفس الوقت يدعو الإنسان المتفوق إلى أن يبدع منظومة قيم جديدة قائمة على "إرادة القوة" كمعيار قيمة؟. 3

إن هذا الكتاب الجميل، الذى هو من أجمل وأدق الكتب التى تناولت نيتشه بعمق وحذر شديدين، يقدم حلولا لمثل هذه الالتباسات التى تغطى فلسفة نيتشه وحدوسه الدقيقة والعميقة. 4