Man and the Sacred Book

مقال على هامش الكتاب: الأعياد كحاجة دينية واجتماعية


يعد العيد انفصالا انطولوجيا بين الزمن العادي والزمن المقدس، نوع من إعادة خلق العالم من خلال استعادة زمن الأسلاف المقدسين وإعادة تمثّله، أو بتعبير جورج دوميزيل الدقيق، هو انفتاح الزمن الأعظم لحظة ينتزح البشر عن الصيرورة ميمّمين شطر خزان القوى الكلية القدرة والدائمة التجدد التي يمثّلها العهد الأولاني.

العيد في المجتمعات البدائية

العيد جزء مهم من صيرورة الإنسان، كان العيد قديما نقطة مفصلية في الزمن وجزء مهم من إعادة الحيوية للمجتمع من جانبه الديني والاقتصادي والاجتماعي. يمارسه الإنسان من خلال استعادة زمان الخلق الأول، الزمن الأسطوري، زمن الفوضى، وكل جماعة تستمد أساطيرها عن الخلق وتعيد معايشتها بكل حيويتها الأولى.
بينما كان الإنسان في الأيام العادية متقيد بمحظورات مقدسة تختلف من جماعة إلى أخرى فيما يشكل ما يطلق عليه روجيه كايو احترام المقدسات. قبل فترة العيد مباشرة كان الإنسان يلتزم احترام المقدسات بشكل أكبر ويهيئ نفسه بالصوم والالتزام التام ليستقبل العيد. وعند أيام العيد تستعيد الجماعة حالة الفوضى الأولى، فيصبح المجون (الجنسي والغذائي والاجتماعي) وانتهاك المقدسات هو السمة الأساسية للعيد، لأن هذه هي الحالة الأولى الأسطورية قبل تنظيم العالم. تساعد انتهكات العيد في إعادة خلق الزمان مرة أخرى لتطهيره وإعادة الحيوية إليه.
وكان هذا يُمارَس في المجتمعات الطوطمية الأسترالية والأفريقية وعند السومريين والبابليين والكنعانيين واليهود وغيرهم من الديانات القديمة.

‌ العيد في المجتمع الحديث

في المجتمع الغربي الصناعي الذي تنحّت فيه القداسة جانبا حلّت العطلة مكان العيد، والعطلة نوع من الراحة يقضيها كل شخص بشكل ما، فاسمها نفسه يدل عليها كونها فراغا، أو على الأقل تباطؤ في النشاط الاجتماعي، وخلوها من الطابع الإيجابي يجعلها غير كافية لإرضاء الفرد، فالسعادة التي توفرها تكمن في تبديد الهموم وتحريرها من الالتزامات، وغالبا ما يحب الإنسان قضاءها في عزلة كشكل من الراحة المستحقة، بينما العيد هو حالة التقاء الجميع في النقطة نفسها.. لذلك العطلة لا تشكل فيض الحياة الاجتماعية بل أدنى مستوى ليها.

الأعياد لم تختفي من المجتمع الغربي بشكل تام وإن كانت فقدت سماتها القديمة، فأعياد مثل رأس السنة والهالوين وغيرها وإن كانت ممارسات لا تؤدى لغاية دينية، إلا أن منشأها حاجة دينية واجتماعية ملحة، ولها جذور أبعد في التكوين النفسي والاجتماعي للجماعة.

الأعياد في المجتمعات العربية

ما زالت سمة المجون من أهم سمات الأعياد في مجتمعنا، وسمات النهم والأفراط في الأكل جزء أساسي. كما أن حالة ارتفاع القداسة للفترة التي تسبق العيد نفسها تتشابه مع المجتمعات القديمة، نجد مثلا أن عيد الفطر تابع لشهر رمضان الذي يمثل أعلى حالات القداسة، وهكذا عيد الأضحى الذي يصاحب مراسم الحج، ومن العبادة صيام الأيام التي تسبق العيد. هذا التماس نستطيع أن نفهمه من خلال نظرية اللاوعي الجمعي الديني عند يونج عندما نربطه بأشكال العيد في المجتمعات البدائية، فجذور هذه العادات لم تختفي عند الإنسان بالرغم من اختلافها في الكثير بسبب تعقد المجتمعات والأنظمة الدينية.

تُستعاد الحالة الأولى أيضا الآن لكن بأشكال مغايرة تماما، نظرا إلى عدم محورية أساطير خلق العالم والخصب والتنشئة في الأعياد الإسلامية.
نجد هذا بشكل مغاير في المسيحية، فينما يتركز عيد النيروز كعيد شعبي ينتمي إلى الميراث القديم كونه عيد زراعي، نجد مثلا أن في حالة عيد القيامة المجيد وعيد ميلاد المسيح، تحصل استعادة للزمن المقدس المتمثل في استعادة زمن تجسد الأقنوم الإلهيّ على الأرض، فشكل استعادة العيد هنا مختلف عن التمثّل القديم لأساطير الخلق.
وهذا أيضا يتماثل مع بعض الأعياد الإسلامية غير الرئيسية كالاحتفال بالسنة الهجرية كحدث هام في التاريخ الإسلامي، أو بمولد النبي.

أزمة الأعياد في المجتمع العربي

مؤخرا بدأت الأعياد تفتقد طابعها المقدس القديم عند الإنسان الديني العربي، كما فقدت قيمتها سابقا عند الغرب، لكن المشكلة تكمن في أنه لا توجد دراسات عربية لفهم أسباب غياب المقدس في مجتمعنا الحالي، وهي المشكلة الأهم لإدراك سبب تراجع قدسية العيد.
لم يعد في المجتمعات العربية سوى حضور ديني جامد وشكلاني مغترب تماما عن المقدس، بداية من أشد الأشكال الدينية تطرفا مرورا بالأصولية الدينية وصولا إلى الشخص المتدين العادي المنسحق تحت وطئة المجتمع الرأسمالي.
ويزداد هذا الاغتراب في الأجيال الشابة والناشئة لأسباب عديدة، أحدها الانفتاح الثقافي والفكري على الغرب من خلال مواقع التواصل الاجتماعي، مما أحدث حالة صدمة عند الكثيرين، وخلّف هذا عدد من الطرق في التعامل مع الأمر: الأول منبهر بالتفتح الفكري الغربي ويريد استعارته دون فهم. الثاني يريد العودة للقرون الإسلامية الأولى لاستعادتها والتمسك بها كنوع من الهوية الزائفة. الثالث غير مبالي بكل ما يحدث.
بينما انصرف القليلين إلى محاولة إدراك الأزمة وتتبعها.
وهذا موضوع آخر أكبر من حصره في هذه الكلمات، بحاجة إلى دراسات جادة لفهم حالة مجتمعنا الحالي، فالأسباب الاقتصادية لها عامل كبير في التأثير على هذه الأزمة الفكرية والدينية.
لكن تتبع هذه الأزمة سيمهد الطريق لتتبع أزمة القداسة والأشياء المرتبطة بها مثل الأعياد.